كانت المسافة تُطوى على سكتها محطات
الوقت يتكوّم فوق مسافته صمتا قاتلا
والفراغ كان يعلن نفسه جليسا لكل منّا في مقعده .
أنا في يدي تعرّق غلاف الكتاب الذي أحمله
منذ صعدتُ الى مكاني
ولم أقرأ بعدُ سطرا واحدا منه,
فهدير القطار يجذبني من شرودي الى
ضخامة جهده,
وهمهمة الاحاديث من حولي تحيلني كتلة
من إنصات سَئِم .
ويدي مثقلة بفكر كاتب ما, رصّه في صفحات عديدة
وإستخفّ عقولنا, وباعنا إياه !!!
ليتني في مكان آخر الان
هكذا راودتني نفسي في دورانها المتململ .
نظرت مجددا الى غلاف ما في يدي وقرأت
من تحت نظارتيّ المرهقتين متابعة :
[ كيف تفتح حديثا وديّا مع شخص ما في ثلاث خطوات فقط ]
!!!!
- بالله عليك ؟!!
أيُّ نوعٍ من الكتب هو هذا؟ وكم يملك مؤلفه من الفراغ حتى يجهد
نفسه للتفكير في خطوات لهذا النوع من المحادثات ؟!
ذهبتُ الى الفهرس فضولا لا رغبة ..
وتابعت بنظري التبويبات المتعددة :
1- إن كنت في مكان عام
2- إن كنت في مكان خاص
3- إن كنت في مكان عمل / ك
4- إن كنت في حفلة
5- إن كنت في حافلة
6- إن كنت في قطار ..
* هاااا, ها هو ذا ..
قلّبت الصفحات بسرعه ووصلت الى الفصل المطلوب ..
وبدأت القراءة :-
- " لأسباب كثيرة, يغلبنا الضجر في وسائل التنقل العامة, وخاصه إذا كنا مسافرين وحيدين,
لا نملك من المرفهات شيئا, أو أننا قمنا بإستخدامها جميعا, وما زال السئم يحاصرنا,
وإحساسنا بطول المسافة يزداد لا يقل. لذا فأول ما قد يخطر في بالنا هو محاورة من يجلس
بجوارنا أو أمامنا مباشرة, حتى نقطع الوقت بحديث للتعارف, والتسلية المتبادلة "
* حسنٌ هذا طبيعي حتى الان, ولم يأتي بأي جديد !
أتابعُ القراءة :-
- " ولكي نقوم بفتح حديث ودي وطبيعي, ولا نكون فيه ثقيلي الظل على من هم هدفنا
من الاشخاص, علينا القيام بثلاث خطوات , ولكن في البداية يجب
أن نحدد جنس جليسنا, هل هو ذكر أم أنثى. ثم فئته العمرية هل هو صغير في السن
أم متقدم فيه, ثم وضعه العام كوجود من يرافقه أم أنه يجلس وحيدا.
ذلك أن لكّل جنس مدخل يناسبه, ولكل عمر معاملة تخّصه .
فَ لنأخذ مثال الذكر الشاب :-
أولا :- نراقبه بعضا من الوقت بطريقة لا تبعثُ على الشك ولا تثير الإرتياب من قبله,
نظرات صغيره من تحت الجفون, كي نستجمع إنطباعا أوليا من مظهره وحركات يديه
وجلسته وما يفعله.
ثانيا :- نأخذ نفسا عميقا, ونزفره دفعة واحدة بشكل مسموع للفت إنتباهه, وحين نتيقن من
تحقيق ذلك, ننظر مباشرة اليه, ونعتذر مبررين بسأم طول المسافة, وذم المقاعد الصلبه
الغير مريحة لمثل هذه الرحلة الطويلة . ونتوقف حتى نحصل منه على تجاوب ما,
كإبتسامه صغيره , أو هزة رأس مؤكده. ثم نكمل متحدثين عن الطقس الغير مشجع في الخارج.
إن كان بردا أو حرّا. ونتوقف مجددا لنحصل على المزيد من التشجيع .
وبعدها قد نبدأ بالحديث عمّا ورد في جريدة اليوم الموجوده على جانب المقعد .
وهنا يجب أن نكون منتبهين في إختيارنا للخبر المُراد الحديث عنه, حتى لا نخسر
إهتمام وإنتباه من نتحدث اليه, ونجعله سئما قبل أن نبدأ .
ثالثا :- في هذه المرحلة على الارجح نكون وصلنا الى مرحلة الحديث المتواصل
بمعنى المحاورة بين طرفي الاخذ والرد. ونكون قد توصلنا الى صيغة مريحة
من التعامل مع الموقف, بأن لا نجعل من أنفسنا ثرثارين بفم كبير, أو مهرجين
بشكل سخيف, ولا تراجديين بشكل ممل, إنما قابعين في حالة الوسط المقبولة
على كافة المستويات, وبأن نبقي الحديث على المستوى العام بحيث لا نتحدث
بإسهاب عن فصول من حياتنا, ولا نزعج الاخر بالتطرق الى أموره الشخصية.
إنما لا ضيرَ أبدا من أن نعرّف إذا دعت الحاجة عن أنفسنا بالاسم,
والمهنة, والحالة الاجتماعية. وربما قد نعرض بعض صور لأفراد عائلتنا,
تأكيدا على أقوالنا, ولجعل الامر يبدو ممتعا وغير عابر.
وفي مرحلة ما قد نعرض عليه لياقة بعضا من طعام نحمله, ربماعلكة, أو سجائر
أو حتى مسكنات لوجع الرأس .
ومن هذه النقطه حتى وصولنا الى محطة نزولنا, أو نزول الشخص الذي نحدثه
نكون قد حققنا جيدا الثلاث خطوات في فتح حديث مهذب بالدرجة الاولى,
ممتع بدون إزعاج, وقاتل للوقت وهذا بشكل أساسي الهدف الاهم " .
أهزُّ راسي, دون قصد, وكأنني فعلا أستمتع بالقراءة, ويعنيني تطبيق ما يأتي فيه
وكأنه مسألة حياة أو موت !!
أتنحنح قليلا وكأنني أُجلي فكري, لأعود الى رُشدي بعض الشيء,
أمط شفتيّ بأن لا بأس حقا بما قرأت, فربما ليست فكرة سيئة في النهاية
فكيف يمكننا جديا قتل الوقت ونحن مسافرين في قطار ما, لمدة طويلة ؟!
أفكر مخاطبة نفسي داخليا:
* لمَ لا أحاول تطبيقا عمليا لما قرأت, لن أخسر شيئا في النهاية, طالما
أن الامر بهذه السهولة التي أُفرد بها .
أرفع نظري قليلا عن الكتاب, وأختلس نظرات صغيره الى من يجلس قبالتي
فأجده رجلا في أواخر الاربعينيات,فلا أصدق حظي, وكأن الكتاب كان يقودني
من يدي فعليا الى تحليل وضع وجدني فيه.
أحاول مراقبته ببطء عبر مظهره الخارجي, من حذاءه الرياضي المتسخ قليلا
لكثرة الاستخدام, الى جينزه الباهت, الى القميص العادي والسترة الكتان التي يرتديهما
الى لحيته النابتة قليلا مظللة فكه المدقق, الى خديه البارزين , وتسريحة شعره البُني
االكثيف المائل الى الجهة اليّمنى في شبه تصفيف.
كان يضع في أذنيه سماعات للموسيقى, ويبدو مسترخيا بشكل غريب رغم كل ما حوله
عينيه مغمضتين لذا لم أتبين لونهما.ويديه كانتا في حضنه فبدا شبيها بمتعبد يوغا .
لم يكن ممتلئا ولا نحيلا, عاديا الى أبعد حد, رجلا من رجال هذا الزمن, الذين
قد يعبروا طيلة الوقت من أمامي ولا أعيرهم إنتباها.
إنما لا بأس في أن أعيره بعضا منه اليوم, فأنا بحاجة لتمرير هذه الاجواء الثقيلة
مهما كلفني الامر.
أغلقتُ كتابي, ووضعته على المقعد الى جانبي, وأخذتُ نفسا عميقا, وزفرتُه بقوة.
فلم يُحرك الرجل ساكنا, فأدركتُ أن ذلك بسبب سماعتي الموسيقى في أذنيه.
فحاولت عندها صُنع بداية أخرى لمحاولتي طالما أن الكتاب لم يسعفني في ذلك.
فأمسكتُ به ورميته على الارض عمدا وبقوة.
ففتح الرجل عينيه على عجل وكأنه أفاق مرتعبا من حلم ما, ونظر بإتجاه ما حدث,
فإنحنيتُ لحظتها لرفع الكتاب عن الارض, وحملتُه بين يدّي ووضعته في حضني,
متمتمة بإعتذار عما حدث دون قصد, فأزعجه. فنظر اليَّ دون تعبير, ثم الى الكتاب
في حضني لبعض من الدقيقة, وأعاده اليّ مرة أخرى, وإبتسم شبه إبتسامة,
وقال لي مشيرا الى الكتاب:
* ما زال يأتي بنتيجة حتى بعد 10 سنوات من صدوره, كنتُ متأكدا وأنا أكتبه
بأن هذه ال 3 خطوات لن تفقد بريقها أبدا لدى الناس, وستبقى مقبولة وممكنة
في أي مكان .
بأن هذه ال 3 خطوات لن تفقد بريقها أبدا لدى الناس, وستبقى مقبولة وممكنة
في أي مكان .
كانت إبتسامته تتسع على ثغره وهو ينظر اليّ ويحدثني متابعا,
وأنا كنتُ أصغرُ شيئا فشيئا في مقعدي, حتى ظننتُ أن الوقت الذي
كنتُ أحاول قطعه, إبتلعني ساخرا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق